لا تأتي هذه المادة المتواضعة، المكتوبة على شرف يوم الأرض، لتكون عرضًا شاملاً للأغنية الوطنية-السياسية الفلسطينية، ولا يصح تصنيفها كنقد موسيقي؛ وإنما تشكّل هذه المادة، محاولة متواضعة لتقفي أثر تطوّر وتحوّل مفهوم الأرض في سياق الأغنية الوطنية-السياسية الفلسطينية.
يمكننا أن نلمس عبر رصد سريع للأغنية السياسيّة الفلسطينيّة، كيف تشغل الأرض حيّزًا مركزيًا في الأغنية السياسيّة من منطلق مركزيتها في تكوين الفولكلور الفلسطيني والهويّة الفلسطينية عامةً. ومن الجدير التوقّف في هذا السياق، عند الدور المركزي لفرقة الفنون الشعبيّة بتمكين اصطلاح "الأرض" في سياق الأغنية السياسيّة، ثم نستمر لنلاحظ تصدّع مفهوم “الأرض” وتحوّله إلى رمز فضفاض حين تبدأ الأغنية تتركز في الثورة والبندقية، حيث تلعب فرقة “العاشقين” ذاتها دور في صوّغ هذه المرحلة، وفيها يتضاءل مصطلح “الأرض” الى حد كبير من قاموس الأغنية في الانتفاضة الأولى، حيث سنشير إلى دور “الفرقة المركزية” وصولاً نهاية الى انهيار الأغنية السياسية في مرحلة أوسلو.
اِنطلقت فرقة “الفنون الشعبية” في العام 1979، أي بعد يوم الأرض بثلاث سنوات، الأمر الذي يصعّب فصل انطلاقتها عن حالة الحراك والنشاط السياسي والثقافي في فلسطين المحتلة عام 1948 تحديداً، والذي بدأ يتسع ويتصاعد ليشغل حيزًا هامًا ومركزياً في انطلاقة يوم الأرض، ثم ليكتسب هذا الحراك من يوم الأرض قوة زادت وتيرة تصاعده لاحقاً.
فرقة الفنون الشعبية هي فرقة فلكلورية صرّف يشكّل التراث الفلسطيني مادتها الخام؛ تراث مجتمع فلاحيّ تدور حياته في فلك الأرض وما يحيطها من قصص الحب والعلاقات الاجتماعية والمادية والروحانية. ومن هنا فإن أغاني الفرقة في هذه المرحلة تدور كلها حول طبيعة أرض فلسطين، كما نلاحظ في أغاني مثل "يا زارعين السمسم” و“شوربنة“ وهي صلاة استسقاء “واردات” وغيرها.
[يا زارعين السمسم]
[واردات]
هذا الفلكلور الذي يروي قصص وتجارب الفلاحين البسيطة، استطاع في خضم ذلك السياق التاريخي أن يلعب دورًا هامًا لأنّ الأرض شكّلت عماده الأساسي. لهذا السبب تحديداً استطاعت فرقة الفنون الشعبية الهاب جمهورها من دون أن تلفظ اسم أبي عمار ولا منظمة التحرير ولا جمال عبد الناصر، بل عبر تقديم عملاً موسيقيًا يفيض بالملامح الدرامية، لأنه عمل يعي أنّ المشاهد والمستمع الفلسطيني، الذي تكوّن الأرض صميم هويته وسليقته، وهي جزء من وعيه ولا وعيه في ذات الوقت، بل وتصوغ وتحدد رؤيته للصراع؛ لا يحتاج إلى أكثر من استعراض هذا الجزء بحلته النقية والطبيعية لكي يخرج المشاهد من ساحة العرض منتفضًا. بذلك قدمت الفنون الشعبية وهماً، وهم الأفراح الفلسطينية على “أرض” الوطن، ووهم الشاب والشابة اللذيْن ينتظران الحصاد ليتزوّجا، وأوهاماً –أو نقول أكاذيب- كثيرة أخرى تثيرنا، وتذكرنا أنّ الأرض التي لها أفراحنا وأفراح الراقصات على المسرح، غابت وغاب معها فرحنا.
لاحقاً، ومع تقدّم مسيرة النضال الفلسطينية (حرب لبنان على وجه الخصوص)، بدأت فرقة الفنون الشعبية بتقديم أعمال أكثر صلة بمقاومة الاحتلال خاصةً مع عمل مثل "وادي التفاح“ (1984) الذي حافظ على الطابع التراثي مضيفًا إليه أغانيَ ذات طابع أكثر ثورية مثل "طلّت الباروده“، الأغنية التي أداها كثيرون (غناها أبو عرب في رثاء جهاد جبريل بكلمات مختلفة، كحال معظم الأغاني الفلكلورية) وأيضًا "من مزرعتي ومن تلي“ وأغنية “وادي التفاح“ وغيرها.
[طلت البارودة]
[من مزرعتي]
اندلاع الانتفاضة الأولى في العام 1987 كان المحطة التالية. إلا أنه، ومع العلم أن الانتفاضة لم تندلع في ظرف يوم، بل هي تراكم لحال فوران وغضب شعبي يتهيأ للانفجار، تساءلنا عن الأرض في الأغنية الوطنية الفلسطينية في هذه المرحلة.. "لقد تركناها ومضينا للحرب"، تجيب فرقة الفنون الشعبية قبل اندلاع الانتفاضة بشهور، حين قدمت لنا عملها الثالث: “مشعل” قصة شاب يترك قريته وأرضه وحبيبته عائشة، ويبيع أساورها ليشتري بندقية ليتمكن من الذهاب إلى المدينة، إلى "حيفا عروس الأبطال“ تحديدًا، لكي يقاتل. لكن الوهم لا زال مستمرًا، فقصة مشعل مستوحاة من الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الإنجليز، إلا أنّ الوعي الفلسطيني يعرف ما الذي يجب أن يفهمه. في هذه النقطة برأيي، يبدأ إقصاء الأرض عن جوهر الصراع، كما ينعكس في الأغنية.
[حيفا عروس الأبطال]
فرقة العاشقين الفلسطينية، التي بدأت طريقها في العام 1977 في دمشق، مرّت بالمراحل ذاتها تقريبًا، فقد قدمت العاشقين أوّل أهم أعمالها مثل"والله لزرعك بالدار يا عود اللوز الاخضر” من دون أن تنفصل عن مركزية الأرض في تركيب الأغنية كمرآة للهوية. لكن ظروف الثورة الفلسطينية وذروتها -حرب لبنان- دفعت فرقة العاشقين (بسرعة فائقة) لمنح سلاح التحرير حصة الأسد من الأغنية، فلم تعد الأرض إلا رمزًا يُستعمل في بعض الأغاني والمواويل مثل "لكتب على جبين المرج“، فيما تغيب تماماً في أغانٍ أخرى. لكنّ الألحان الفلكلورية المستمدّة من علاقة الفلسطيني بالأرض، ظلت أساسية في أغانٍ طابقت كلماتها الأحداث السياسية الجارية. مثلاً:"على دلعونا" و"يا ظريف الطول" و“جفرا”، وفي الأخيرتين نلمس تشابهًا كبيرًا بين مسيرة الفنون الشعبية والعاشقين باستمداد الاغاني من ثورة 1936، فنرى أعمالاً كثيرة للعاشقين مثل“من سجن عكّا” و "أبو ابراهيم“ و"الشوملي“ و"يا ديرتي“ تحاكي هذه الثورة المجيدة.
[عود اللوز]
[لكتب على جبين المرج]
[دلعونا]
[يا ظريف الطول]
[جفرا]
[سجن عكا]
[أبو ابراهيم]
[الشوملي]
[يا ديرتي]
ولا أوفى على الشهادة على الانتقال من مناجاة الأرض والتراث إلى مناجاة البندقية من أغنية العاشقين ذاتها “كنّا نغنّي” وفي مطلعها: “كنّا نغني في الأعراس/ جفرا عتابا ودحيّه/ واليوم نغني برصاص/ ع الجهادية الجهادية”.
[كنا نغني]
ولا يقتصر ظهور أغنية سياسية تنفي حضور الأرض من دوائرها على حقبة حرب لبنان فحسب، بل امتد ذلك الى الضفة الغربية مع اندلاع الانتفاضة الأولى ، حيث نرى أغاني “الفرقة المركزية” التي ظهرت بقوة في الانتفاضة الأولى تحيّد فكرة الأرض وما يتعلق بها من مصطلحات تراثية، وتتركها مخزنًا احتياطيًا للكلام مثل أغنية “محلا البيدر والدريس."
الفرقة المركزيّة أتت تضع في مركز الأغنية تفاصيل الانتفاضة الأولى الصغيرة؛ تفاصيل الحالة الاجتماعيّة المثيرة للاهتمام (والابتسامة) التي تحوّل المجتمع الفلسطيني بأكمله من الطفل الصغير حتى الشيخ الكبير، إلى شركاء في تداول وصناعة السياسة. وفي وضع تختلط فيه السياسة والصدام مع الاحتلال بالحياة اليوميّة، وتتحول الاصطلاحات السياسية الي جزء من اللغة المحكيّة في كل بيتٍ وحارة. تظهر الفرقة المركزيّة (يُشار إلى أن ظهورها تحت هذا الاسم يأتي بدوافع الحيطة الأمنيّة، وأن الفرقة تتركب بالأساس من موسيقيي فرقة الفنون الشعبيّة ذاتها.) فتنتج الفرقة أغانٍ ذات ألحان تراثية بسيطة تندمج فيها مصطلحات سياسية بحت مثل "الفيتو الأمريكي" وعبارات مثل "ضمن الصفّ الوطني منبوذ السلاح دعم الانتفاضة بتصعيد الكفاح" وغيرها من العبارات التي لا يستساغ صوغها حتى في أبلغ الوثائق والبيانات السياسية.
[نزلوا صبايا وشبان – الفيتو الأمريكي]
في نهاية هذا المسار، تحضر مرحلة اتفاقية أوسلو مثقلة بما سبقها وما تلاها من تراجع في أغنية السلاح وأغنية الثورة كما رأيناها حتى الآن، فنشهد تراجع ملحوظ للأغنية الفلسطينية عموماً، على غرار تراجع كل مقومات المجتمع الفلسطيني آنذاك. ففرقة “العاشقين” انهارت في أوائل التسعينات، وفرقة الفنون الشعبية لم تنتج عملا جديدًا لمدة خمس سنوات (“مرج بن عامر” في 1989 وثم “طلة ورا طلة” في 1994)، وما انتجته كان متأثراً بالواقع الفلسطيني البائس والتعيس، فكان العمل مضغاً للوحات قديمة وتصميم رقصات لأغاني الأخوين رحباني، وهو ما تشير اليه الفرقة كـ“تجربة جديدة في تصميم الرقصات”. وقدمت بعدها في العام 1997 “زغاريد”، وهو شريط أغاني أعراس تراثية فلسطينية، لعلّه يعود إلى ما حاولت الفرقة تقديمه في بداياتها، وإن كان هذا الاحتمال صحيحًا فهذا يدّل على أن هذه الفرقة كانت تعّي بشكل كامل ما الذي كانت تفعله منذ يومها الأول. أما الاحتمال الآخر فهو أن يكون “زغاريد” جزءاً من نفسية الهزيمة التي نأت بنفسها عن السياسة في مرحلة وجدنا فيها القيادة التي لها وبها غنّينا وتغنينا، تساوم على الفتات.
بهذا الشأن هنالك ثلاثة أمور يجب أن توضع موضع نقاش متعمق: الأول، إصدارات الفنون الشعبية الجديدة التي تُعتبر قفزة فنية نوعية وتحمل الكثير من الأسئلة السياسية. الأمر الثاني، هو محاولات إحياء فرقة العاشقين، وهو أمر شائك يجب أن ننتبه إليه عاجلاً لما يجري من محاولات تحزيب للفرقة. والأمر الثالث هو اختفاء الأغنية السياسية في الانتفاضة الفلسطينية الثانية!
طرح هذه المسائل يأتي لتقصي أثر التحوّل السياسي في السياق الفلسطيني وانعكاسه على الموسيقى وعن أثر ارتداد ذلك علينا كمستمعين وكمشاركين في خلق هذا التحوّل وتشكّله.
[تنشر جدلّية هذه النسخة المعدّلة للمقالة التي نشرت قبل عاميّن في موقع قديتا، وذلك بالإتفاق مع الكاتب]